الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
والمسجد الأقصي صلت فيه الأنبياء من عهد الخليل، كما في الصحيحين عن أبي ذر قال: قلت يا رسول اللّه، أي مسجد وضع أولا؟ قال: (المسجد الحرام). قلت: ثم أي؟ قال: (المسجد الأقصي). قلت: كم بينهما ؟ قال: (أربعون سنة، ثم حيثما أدركتك الصلاة فَصَلِّ، فإنه مسجد)، وصلى فيه من أولياء اللّه ما لا يحصيه إلا اللّه، وسليمان بناه هذا البناء، وسأل ربه ثلاثا: سأله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده، وسأله حكما يوافق حكمه، وسأله أنه لا يؤم هذا المسجد أحد لا يريد إلا الصلاة فيه إلا غفر له . ولهذا كان ابن عمر يأتي من الحجاز، فيدخل، فيصلى فيه، ثم يخرج ولا يشرب فيه ماء، لتصيبه دعوة سليمان. وكان الصحابة ثم التابعون يأتون، ولا يقصدون شيئاً مما حوله من البقاع، ولا يسافرون إلي قرية الخليل، ولا غيرها. وكذلك مسجد نبينا، بناه أفضل الأنبياء، ومعه المهاجرون /والأنصار، وهو أول مسجد أذن فيه في الإسلام ، وفيه كان الرسول يصلى بالمسلمين الجمعة والجماعة، ويعلمهم الكتاب والحكمة، وفيه كان يأمرهم بما يأمرهم به من المغازي، وغير المغازي. وفيه سنت السنة، والإسلام منه خرج، وكانت الصلاة فيه بألف، والسفر إليه مشروعا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ، وليس عنده قبر، لا قبره ولا قبر غيره، ثم لما دفن الرسول دفن في حجرته وبيته، لم يدفن في المسجد. والفرق بين البيت والمسجد مما يعرفه كل مسلم؛ فإن المسجد يعتكف فيه والبيت لا يعتكف فيه، وكان إذا اعتكف يخرج من بيته إلي المسجد، ولا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان، والمسجد لا يمكث فيه جنب ولا حائض، وبيته كانت عائشة تمكث فيه وهي حائض، وكذلك كل بيت مرسوم تمكث فيه المرأة وهي حائض، وكانت تصيبه فيه الجنابة فيمكث فيه جنباً حتى يغتسل، وفيه ثيابه، وطعامه، وسكنه، وراحته، كما جعل اللّه البيوت. وقد ذكر اللّه [بيوت النبي] في كتابه، وأضافها تارة إلي الرسول، وتارة إلي أزواجه، وليس لتلك البيوت حرمة المسجد وفضيلته، وفضيلة الصلاة فيه، ولا تشد الرحال إليها، ولا الصلاة في شيء منها بألف صلاة. ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم في حال /حياته كان هو وأصحابه أفضل ممن جاء بعدهم، وعبادتهم أفضل من عبادة من جاء بعدهم، وهم لما ماتوا لم تكن قبورهم أفضل من بيوتهم التي كانوا يسكنونها في حال الحياة، ولا أبدانهم بعد الموت أكثر عبادة للّه وطاعة مما كانت في حال الحياة. واللّه تعالى قد أخبر أنه جعل الأرض كفاتا، أحياء وأمواتا. تكفت الناس أحياء على ظهرها، وأمواتا في بطنها، وليس كفتهم أمواتا بأفضل من كفتهم أحياء؛ ولهذا تستحب زيارة أهل البقيع وأحد وغيرهم من المؤمنين. فيدعي لهم ، ويستغفر لهم، ولا يستحب أن تقصد قبورهم لما تقصد له المساجد من الصلاة، والاعتكاف، ونحو ذلك، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أحب البقاع إلي اللّه المساجد)، فليس في البقاع أفضل منها، وليست مساكن الأنبياء لا أحياء ولا أمواتا بأفضل من المساجد. هذا هو الثابت بنص الرسول، واتفاق علماء أمته. وما ذكره بعضهم من أن قبور الأنبياء والصالحين أفضل من المساجد، وأن الدعاء عندها أفضل من الدعاء في المساجد، حتى في المسجد الحرام والمسجد النبوي، فقول يعلم بطلانه بالاضطرار من دين الرسول، ويعلم إجماع علماء الأمة على بطلانه إجماعا ضروريا، كإجماعهم على أن الاعتكاف في المساجد أفضل منه عند القبور. والمقصود / بالاعتكاف: العبادة والصلاة، والقراءة، والذكر، والدعاء. وما ذكره بعضهم من الإجماع على تفضيل قبر من القبور على المساجد كلها، فقول محدث في الإسلام، لم يعرف عن أحد من السلف، ولكن ذكره بعض المتأخرين، فأخذه عنه آخر وظنه إجماعا؛ لكون أجساد الأنبياء أنفسها أفضل من المساجد. فقولهم يعم المؤمنين كلهم، فأبدانهم أفضل من كل تراب في الأرض، ولا يلزم من كون أبدانهم أفضل أن تكون مساكنهم أحياء وأمواتا أفضل، بل قد علم بالاضطرار من دينهم أن مساجدهم أفضل من مساكنهم. وقد يحتج بعضهم بما روي من: (أن كل مولود يذر عليه من تراب حفرته)، فيكون قد خلق من تراب قبره. وهذا الاحتجاج باطل لوجهين: أحدهما: أن هذا لا يثبت، وما روي فيه كله ضعيف، والجنين في بطن أمه يعلم قطعا أنه لم يذر عليه تراب، ولكن آدم نفسه هو الذي خلق من تراب، ثم خلقت ذريته من سلالة من ماء مهين. ومعلوم أن ذلك التراب لا يتميز بعضه لشخص وبعضه لشخص آخر، فإنه إذا استحال وصار بدنا حيا لما نفخ في آدم الروح فلم يبق ترابا. وبسط هذا له موضع آخر. /والمقصود هنا التنبيه على مثل هذه الإجماعات التي يذكرها بعض الناس، ويبنون عليها ما يخالف دين المسلمين؛ الكتاب والسنة والإجماع. الوجه الثاني: أنه لو ثبت أن الميت خلق من ذلك التراب، فمعلوم أن خلق الإنسان من مني أبويه أقرب من خلقه من التراب، ومع هذا فاللّه يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي؛ يخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن، فيخلق من الشخص الكافر مؤمنا نبيا وغير نبي، كما خلق الخليل من آزر، وإبراهيم خير البرية هو أفضل الأنبياء بعد محمد صلى الله عليه وسلم ، وآزر من أهل النار، كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يلقي إبراهيم أباه آزر يوم القيامة، فيقول إبراهيم: ألم أقل لك لا تعصني؟ فيقول له: فإليوم لا أعصيك. فيقول إبراهيم: يا رب، ألم تعدني ألا تخزيني، وأي خزي أخزي من أبي الأبعد؟! فيقال له: التفت، فيلتفت، فإذا هو بذيخ عظيم، والذيخ ذكر الضباع، فيمسخ آزر في تلك الصورة، ويؤخذ بقوائمه فيلقي في النار، فلا يعرف أنه أبو إبراهيم). وكما خلق نبينا صلى الله عليه وسلم من أبويه، وقد نهي عن الاستغفار لأمه، وفي الصحيح: أن رجلا قال له: أين أبي؟ قال: (إن أباك في النار)، فلما أدبر دعاه فقال: (إن أبي وأباك في النار). وقد أخرج من نوح وهو /رسول كريم ابنه الكافر الذي حق عليه القول، وأغرقه، ونهي نوحا عن الشفاعة فيه. والمهاجرون والأنصار مخلوقون من آبائهم وأمهاتهم الكفار. فإذا كانت المادة القريبة التي يخلق منها الأنبياء والصالحون لا يجب أن تكون مساوية لأبدانهم في الفضيلة؛ لأن اللّه يخرج الحي من الميت فأخرج البدن المؤمن من مني كافر، فالمادة البعيدة وهي التراب أولي ألا تساوي أبدان الأنبياء والصالحين ، وهذه الأبدان عبدت اللّه وجاهدت فيه، ومستقرها الجنة. وأما المواد التي خلقت منها هذه الأبدان فما استحال منها وصار هو البدن فحكمه حكم البدن، وأما ما فضل منها فذاك بمنزلة أمثاله. ومن هنا غلط من لم يميز بين ما استحال من المواد فصار بدنا، وبين ما لم يستحل، بل بقي ترابا أو ميتا. فتراب القبور إذا قدر أن الميت خلق من ذلك التراب فاستحال منه وصار بدن الميت، فهو بدنه، وفضله معلوم. وأما ما بقي في القبر فحكمه حكم أمثاله، بل تراب كان يلاقي جباههم عند السجود ـ وهو أقرب ما يكون العبد من ربه المعبود ـ أفضل من تراب القبور واللحود. وبسط هذا له موضع آخر. والمقصود هنا أن مسجد الرسول وغيره من المساجد فضيلتها بكونها بيوت اللّه التي بنيت لعبادته، قال تعالى: والمساجد الثلاثة لها فضل على ما سواها، فإنها بناها أنبياء، ودعوا الناس إلي السفر إليها. فالخليل دعا إلي المسجد الحرام، وسليمان دعا إلي بيت المقدس، ونبينا دعا إلي الثلاثة، إلي مسجده، والمسجدين، ولكن جعل السفر إلي المسجد الحرام فرضا، والآخرين تطوعا. وإبراهيم وسليمان لم يوجبا شيئا، ولا أوجب الخليل الحج؛ ولهذا لم يكن بنو إسرائيل يحجون،ولكن حج موسي ويونس وغيرهما؛ولهذا لم يكن / الحج واجبا في أول الإسلام؛ وإنما وجب في سورة آل عمران بقوله تعالى: والمقصود أن مسجد الرسول فضيلة السفر إليه لأجل العبادة فيه، والصلاة فيه بألف صلاة؛ وليس شيء من ذلك لأجل القبر بإجماع المسلمين. وهذا من الفروق بين مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وغيره، وبين قبره وغيره، فقد ظهر الفرق من وجوه. /وهذا المعترض وأمثاله جعلوا السفر إلي قبور الأنبياء نوعًا.ثم لما رأوا ما ذكره العلماء من استحباب زيارة قبر نبينا ظنوا أن سائر القبور يسافر إليها كما يسافر إليه.فضلوا من وجوه: أحدها: أن السفر إليه إنما هو سفر إلي مسجده، وهو مستحب بالنص والإجماع. الثاني: أن هذا السفر هو للمسجد في حياة الرسول وبعد دفنه، وقبل دخول الحجرة، وبعد دخول الحجرة فيه. فهو سفر إلي المساجد، سواء كان القبر هناك أو لم يكن. فلا يجوز أن يشبه به السفر إلي قبر مجرد. الثالث: أن من العلماء من يكره أن يسمي هذا زيارة لقبره. والذين لم يكرهوه يسلمون لأولئك الحكم، وإنما النزاع في الاسم. وأما غيره، فهو زيارة لقبره بلا نزاع. فللمانع أن يقول: لا أسلم أنه يمكن أن يسافر إلي زيارة قبره أصلاً، وكل ما سمي زيارة قبر فإنه لا يسافر إليه،والسفر إلي مسجد نبينا ليس سفرًا إلي زيارة قبره، بل هو سفر لعبادة في مسجده. الرابع: أن هذا السفر مستحب بالنص والإجماع والسفر إلي قبور سائر الأنبياء والصالحين ليس مستحبًا لا بنص ولا إجماع بل /هو منهي عنه عند الأئمة الكبار، كما دل عليه النص. الخامس: أن المسجد الذي عند قبره مسجده الذي أسس على التقوي، وهو أفضل المساجد غير المسجد الحرام، والصلاة فيه بألف صلاة، والمساجد التي على قبور الأنبياء والصالحين نهي عن اتخاذها مساجد والصلاة فيها، كما تقدم. فكيف عن السفر إليها. السادس: أن السفر إلي مسجده ـ الذي يسمي السفر لزيارة قبره ـ هو ما أجمع عليه المسلمون جيلاً بعد جيل، وأما السفر إلي سائر القبور فلا يعرف عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، بل ولا عن أتباع التابعين، ولا استحبه أحد من الأئمة الأربعة، ولا غيرهم. فكيف يقاس هذا بهذا؟! ومازال المسلمون من عهده وإلي هذا الوقت يسافرون إلي مسجده؛ إما مع الحج، وإما بدون الحج. فعلى عهد الصحابة لم يكونوا يأتونه مع الحج ـ كما يسافرون إلي مكة ـ فإن الطرقات كانت آمنة، وكان إنشاء السفر إليه أفضل من أن يجعل تبعًا لسفر الحج. وعمر بن الخطاب قد أمرهم أن يفرد للعمرة سفرًا وللحج سفرًا، وهذا أفضل باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم ـ من التمتع والقِران؛ فإن الذين فضلوا التمتع والقران كما فضل أحمد التمتع لمن لم يسق الهدي والقران لمن ساق الهدي ـ في المنصوص عنه ـ وصرح في غير موضع بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنًا ـ / هو مع ذلك يقول: إن إفراد العمرة بسفر والحج بسفر أفضل من التمتع والقران، وكذلك مذهب أبي حنيفة ـ فيما ذكره محمد ابن الحسن ـ أن عمرة كوفية أفضل من التمتع والقران. وبسط هذا له موضع آخر. والمقصود أن المسلمين ما زالوا يسافرون إلي مسجده ولا يسافرون إلي قبور الأنبياء؛ كقبر موسي، وقبر الخليل ـ عليه السلام ـ ولم يعرف عن أحد من الصحابة أنه سافر إلي قبر الخليل مع كثرة مجيئهم إلي الشام والبيت المقدس. فكيف يجعل السفر إلي مسجد الرسول الذي يسميه بعض الناس زيارة لقبره مثل السفر إلي قبور الأنبياء؟! السابع: أن السفر المشروع إلي مسجده يتضمن أن يفعل في مسجده ما كان يفعل في حياته وحياة خلفائه الراشدين؛ من الصلاة والسلام عليه والثناء والدعاء، كما يفعل ذلك في سائر المساجد، وسائر البقاع؛ وإن كان مسجده أفضل، فالمشروع فيه عبادة لله مأمور بها، وأما الذي يفعله من سافر إلي قبر غيره فإنما هو من نوع الشرك، كدعائهم وطلب الحوائج منهم، واتخاذ قبورهم مساجد، وأعيادًا، وأوثانًا. وهذا محرم بالنص والإجماع. فإن قلت: فقد يفعل بعض الناس عند قبره مثل هذا. /قلت لك: أما عند القبر فلا يقدر أحد على ذلك؛ فإن الله أجاب دعوته حيث قال: (اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد). وأما في مسجده فإنما يفعل ذلك بعض الناس الجهال، وأما من يعلم شرع الإسلام فإنما يفعل ما شرع، وهؤلاء ينهون أولئك بحسب الإمكان فلا يجتمع الزوار على الضلال، وأما قبر غيره فالمسافرون إليه كلهم جهال ضالون مشركون، ويصيرون عند نفس القبر، ولا أحد هناك ينكر عليهم. الوجه الثامن: أن يقال: قبره معلوم متواتر، بخلاف قبر غيره. ومما ينبغي أن يعلم أن الله تعالى حفظ عامة قبور الأنبياء ببركة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، فلم يتمكن الناس مع ظهور دينه أن يتخذوا قبور الأنبياء مساجد، كما أظهر من الإيمان بنبوة الأنبياء وما جاؤوا به؛ من إعلان ذكرهم ومحبتهم، وموالاتهم، والتصديق لأقوالهم، والاتباع لأعمالهم، ما لم يكن هذا لأمة أخري. وهذا هو الذي ينتفع به من جهة الأنبياء، وهو تصديقهم فيما أخبروا، وطاعتهم فيما أمروا، والاقتداء بهم فيما فعلوا، وحب ما كانوا يحبونه، وبغض ما كانوا يبغضونه، وموالاة من يوالونه، ومعاداة من يعادونه ونحو ذلك مما لا يحصل إلا بمعرفة أخبارهم. والقرآن والسنة مملوء من ذكر الأنبياء. وهذا أمر ثابت في القلوب، مذكور بالألسنة، وأما نفس القبر فليس / في رؤيته شيء من ذلك، بل أهل الضلال يتخذونها أوثانًا، كما كانت اليهود والنصاري يتخذون قبور الأنبياء والصالحين مساجد. فببركة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم أظهر الله من ذكرهم ومعرفة أحوالهم ما يجب الإيمان به، وتنتفع به العباد. وأبطل ما يضر الخلق من الشرك بهم واتخاذ قبورهم مساجد، كما كانوا يتخذونها في زمن من قبلنا. ولم يكن على عهد الصحابة قبر نبي ظاهر يزار، لا بسفر ولا بغير سفر، لا قبر الخليل، ولا غيره. ولما ظهر بتُسْتَر [قبر دانيالي وكانوا يستسقون به، كتب فيه أبو موسي الأشعري إلي عمر بن الخطاب، فكتب إليه يأمره أن يحفر بالنهار ثلاثة عشر قبرًا، ويدفنه بالليل في واحد منها، ويعفي القبور كلها لئلا يفتتن به الناس. وهذا قد ذكره غير واحد. وممن رواه يونس بن بكر في [زيادات مغازي بن إسحاق] عن أبي خلدة خالد بن دينار. حدثنا أبو العإلية، قال: لما فتحنا [تستر] وجدنا في بيت مال الهرمزان سريرًا عليه رجل ميت، عند رأسه مصحف له، فأخذنا المصحف فحملناه إلي عمر بن الخطاب ، فدعا له كعبا فنسخه بالعربية، فأنا أول رجل من العرب قرأه، قرأته مثلما أقرأ القرآن هذا. فقلت: لأبي العإلية: ما كان فيه؟ قال: سيرتكم، وأموركم، ولحون كلامكم، وما هو كائن بعد. /قلت: فما صنعتم بالرجل؟ قال: حفرنا بالنهار ثلاثة عشر قبرًا متفرقة، فلما كان بالليل دفناه، وسوينا القبور كلها لنعميه على الناس لا ينبشونه. قلت: وما يرجون فيه؟ قال: كانت السماء إذا حبست عنهم برزوا بسريره فيمطرون. فقلت: من كنتم تظنون الرجل؟ قال: رجل يقال له: [دانيال] فقلت: منذ كم وجدتموه مات؟ قال: منذ ثلاثمائة سنة. قلت: ما كان تغير منه شيء؟ قال: لا، إلا شعيرات من قفاه؛ إن لحوم الأنبياء لا تبليها الأرض، ولا تأكلها السباع. ولم تدع الصحابة في الإسلام قبرًا ظاهرًا من قبور الأنبياء يفتتن به الناس، ولا يسافرون إليه ولا يدعونه، ولا يتخذونه مسجدًا، بل قبر نبينا صلى الله عليه وسلم حجبوه في الحجرة، ومنعوا الناس منه بحسب الإمكان، وغيره من القبور عفوه بحسب الإمكان، إن كان الناس يفتتنون به، وإن كانوا لا يفتتنون به فلا يضر معرفة قبره، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ـ لما ذكر أن ملك الموت أتي موسي ـ عليه السلام ـ فقال: أجب ربك، فلطمه موسي ففقأ عينه! فرجع الملك إلي الله، فقال: أرسلتني إلي عبد لك لا يريد الموت، وقد فقأ عيني، قال: فرد الله عليه عينه، وقال: ارجع إلي موسي فقل له: الحياة تريد؟ فإن كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ثور، فما وارت يدك من شعره فإنك تعيش بكل شعرة سنة. قال: ثم ماذا؟ / قال: الموت. قال: فمن الآن يا رب! ولكن ادنني من الأرض المقدسة رمية بحجر. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فلو كنت ثَمَّ لأريتكم قبره إلي جانب الطريق عند الكثيب الأحمر). وقد مر به صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء فرآه وهو قائم يصلى في قبره، ومع هذا لم يكن أحد من الصحابة والتابعين يسافر إليه، ولا ذهبوا إليه لما دخلوا الشام في زمن أبي بكر وعمر؛ كما لم يكونوا يسافرون إلي قبر الخليل ولا غيره، وهكذا كانوا يفعلون بقبور الأنبياء والصالحين. فقبر [دانيال] ـ كما قيل ـ كانوا يجدون منه رائحة المسك، فعفوه لئلا يفتتن به الناس. و [قبر الخليل] ـ عليه السلام ـ كان عليه بناء. قيل: إن سليمان ـ عليه السلام ـ بناه فلا يصل أحد إليه، وإنما نقب البناء بعد زمان طويل، بعد انقراض القرون الثلاثة. وقد قيل: إنما نقبه النصاري لما استولوا على ملك البلاد، ومع هذا فلم يتمكن أحد من الوصول إلي قبر الخليل ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ فكان السفر إلي زيارة قبور الأنبياء والصالحين ممتنعًا على عهد الصحابة والتابعين، وإنما حدث بعدهم. فالأنبياء كثيرون جدًا، وما يضاف إليهم من القبور قليل جدًا، وليس منها شيء ثابت عرفًا. فالقبور المضامة إليهم منها ما يعلم أنه كذب، مثل [قبر نوح] الذي في أسفل جبل لبنان. ومنها ما لا / يعلم ثبوته بالإجماع ـ إلا قبر نبينا والخليل وموسي ـ فإن هذا من كرامة محمد وأمته؛ فإن الله صان قبور الأنبياء عن أن تكون مساجد صيانة لم يحصل مثلها في الأمم المتقدمة؛ لأن محمدًا وأمته أظهروا التوحيد إظهارًا لم يظهره غيرهم. فقهروا عباد الأوثان، وعباد الصلبان، وعباد النيران. وكما أخفي الله بهم الشرك فأظهر الله بمحمد وأمته من الإيمان بالأنبياء وتعظيمهم وتعظيم ما جاؤوا به وإعلان ذكرهم بأحسن الوجوه ما لم يظهر مثله في أمة من الأمم، وفي القرآن يأمر بذكرهم كقوله تعالى: فالذي أظهره الله بمحمد وأمته من ذكر الأنبياء بأفضل الذكر، وإخبارهم، ومدحهم، والثناء عليهم، ووجوب الإيمان بما جاؤوا به، والحكم بالكفر على من كفر بواحد منهم، وقتله، وقتل من سب أحدا منهم، ونحو ذلك من تعظيم أقدارهم، ما لم يوجد مثله في ملة من الملل. وأصل الإيمان: توحيد الله بعبادته وحده لا شريك له، والإيمان برسله، كما قال تعالى: والصحيح في قوله: /وقال في وسط السورة: ثم إنه بعد تقسيم الخلق قرر أصول الدين. فقرر التوحيد أولا، ثم النبوة ثانيا بقوله: وفي [آل عمران] قال: وكذلك في سورة [يونس] قال تعالى: وفي سورة [الم السجدة] قال تعالى: ومن هذا قوله تعالى: وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في ركعتي الفجر بسورتي الإخلاص تارة، وتارة قوله تعالى: والأنبياء ـ صلوات الله عليهم وسلامه ـ هم وسائط بين الله وبين خلقه في تبليغ كلامه، وأمـره، ونهيـه، ووعـده ووعيده، وأنبائه التي أنبأ بها عن أسمائه وصفاته وملائكته وعرشه وما كان وما يكون، وليسوا وسائط في خلقه لعباده، ولا في رزقهم، وإحيائهم، وإماتتهم، ولا /جزائهم بالأعمال، وثوابهم، وعقابهم، ولا في إجابة دعواتهم وإعطاء سـؤالهم، بل هـو وحـده خـالق كل شيء، وهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه، وهـو الذي يسـأله من في السموات والأرض كـل يـوم هـو في شـأن فبين أن كل ما يدعي من دون الله من الملائكة والأنبياء وغيرهم لا يملكون مثقال ذرة، ولا لأحد منهم شرك معه، ولا له ظهير منهم فلم يبق إلا الشفاعة، فانقسم الناس فيهم ثلاثة أقسام: قوم أنكروا توسطهم بتبليغ الرسالة فكذبوا بالكتب والرسل، مثل قوم نوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب، وقوم فرعون، وغيرهم ممن يخبر الله أنهم كذبوا المرسلين؛ فإنهم كذبوا جنس الرسل، لم يؤمنوا ببعضهم دون بعض. ومن هؤلاء منكرو النبوات من البراهمة، وفلاسفة الهند المشركين، وغيرهم من المشركين، وكلْ منْ كذبْ الرسلْ لاْ يكونْ إلاْ مشركًا،وكذلكْ منْ كذبْ ببعضهمْ دونْ بعض،كما قال تعالى: فكل مـن كـذب محمـدا، أو المسـيح، أو داود، أو سليمان، أو غيرهم من الأنبياء الذين بعـثوا بعـد مـوسي، فهـو كـافر، قـال تعالى: والفلاسفة والملاحدة وغيرهم منهم من يجعل النبوات من جنس المنامات، ويجعل مقصودها التخييل فقط، قال تعالى: وكثير من أهل البدع يقر بما جاؤوا به إلا في أشياء تخالف رأيه، فيقدم رأيه على ما جاؤوا به، ويعرض عما جاؤوا به، فيقول: إنه لا يدري ما أرادوا به، أو يحرف الكلم عن مواضعه. وهؤلاء موجودون في أهل الكتاب، وفي أهل القبلة؛ ولهذا ذكر الله في أول البقرة: المؤمنين، والكافرين، ثم ذكر المنافقين. وبسط القول فيهم. وقسم ثان غَلَوْا في الأنبياء والصالحين وفي الملائكة أيضًا؛ فجعلوهم وسائط في العبادة، فعبدوهم ليقربوهم إلى الله زلفى، وصوروا تماثيلهم، وعكفوا على قبورهم. وهذا كثير في النصاري ومن ضاهاهم من ضلال أهل القبلة؛ ولهذا ذكر الله هذا الصنف في القرآن في [آل عمران] وفي [براءة] في ضمن الكلام على النصاري، وقال تعإلى: وهؤلاء قد يظنون أنهم إذا استشفعوا بهم شفعوا لهم، وأن من قصد معظمًا من الملائكة والأنبياء فاستشفع به شفع له عند الله، كما يشفع خواص الملوك عندهم. وقد أبطل الله هذه الشفاعة في غير /موضع من القرآن، وبين الفرق بينه وبين خلقه، فإن المخلوق يشفع عند المخلوق بغير إذنه، ويقبل الشفاعة لرغبة أو رهبة أو محـبة أو نحـو ذلك، فيكون الشفيع شريكًا للمشفوع إليه. وهذه الشفاعة منتفية في حق الله، قال تعإلى: وهؤلاء يحجون إلى قبورهم، ويدعونهم، وقد يسجدون لهم، وينذرون لهم، وغير ذلك من أنواع العبادات. وهؤلاء أيضًا مشركون. وأكثر المشركين يجمعون بين التكذيب ببعض ما جاؤوا به وبين الشرك، فيكون فيهم نوع من الشرك بالخالق، وتكذيب رسله، ومنهم من يجمع بين الشرك والتعطيل. فيعطل الخالق أو بعض ما يستحقه من أسمائه وصفاته. فأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون لهم بإحسان إلى يوم القيامة، ليسوا من هؤلاء ولا من هؤلاء، بل يثبتون أنهم وسائط في التبليغ عن الله، ويؤمنون بهم، ويحبونهم، ولايحجون إلى قبورهم، ولا يتخذون قبورهم مساجد. وذلك تحقيق (شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله). فإظهار ذكرهم وما جاؤوا به هو من الإيمان بهم، وإخفاء قبورهم لئلا يفتن بها الناس هو من تمام التوحيد وعبادة الله وحده. والصحابة وأمة محمد قاموا بهذا. /ولهذا تجد عند علماء المسلمين من أخبار أهل العلم والدين، من الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم، من مشائخ العلم والدين، والعدل من ولاة الأمور ما يوجب معرفة ذلك الشخص، والثناء عليه، والدعاء له، وأن يكون له لسان صدق، وما ينتفع به؛ إما كلام له ينتفع به، وإما عمل صالح يقتدي به فيه، فإن العلماء ورثة الأنبياء، والأنبياء ـ صلوات الله عليهم ـ يقصد الانتفاع بما قالواه وأخبروا به وأمروا به والاقتداء بهم فيما فعلوه ـ صلوات الله عليهم أجمعين. وأما أهل الضلال ـ كالنصاري وأهل البدع ـ فهم مع غلوهم وتعظيمهم لقبورهم وتماثيلهم والاستشفاع بهم لا تجد عندهم من أخبارهم ما يعرف صدقه من كذبه، بل قد التبس هذا بهذا، ولا يكاد أحد من علمائهم يميز فيما هم عليه من الدين بين ما جاء عن المسيح وما جاء عن غيره، إما من الأنبياء، وإما من شيوخهم، بل قد لبسوا الحق بالباطل. وكذلك أهل الضلال والبدع من أهل القبلة، تجدهم يعظمون شيخًا، أو إمامًا، أو غير ذلك ويشركون به، ويدعونه من دون الله ويستغيثون به، وينذرون له، ويحجون إلى قبره. وقد يسجدون له، وقد يعبدونه أعظم مما يعبدون الله، كما يفعل النصاري، وهم مع ذلك من أجهل الناس بأحواله؛ ينقلون عنه أخبارًا مسيبة ليس لها إسناد، /ولا يعرف صدقها من كذبها، بل عامة ما يحفظونه ما فيه غلو وشطح للإشراك به. فأهل الإسلام الذين يعرفون دين الإسلام ولا يشوبونه بغيره يعرفون الله ويعبدونه وحده، ويعرفون أنبياءه فيقرون بما جاؤوا به، ويقتدون به، ويعرفون أهل العلم والدين، وينتفعون بأقوالهم وأفعالهم. وأهل الضلال في ظلمة لا يعرفون الله ولا أنبياءه ولا أولياءه، ولا يميزون بين ما أمر الله به وما نهي عنه، وبين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان. ولا ريب أن في أهل القبلة من يشبه إليهود والنصاري في بعض الأمور، كما في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لتتبعن سَنَن من كان قبلكم حَذْو القُذَّة بالقُذَّة، حتى لو دخلوا جحر ضَبٍّ لدخلتموه). قالوا: يا رسول الله، إليهود والنصاري؟ قال: (فمن!). وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لتأخذن أمتي مأخذ الأمم قبلها، شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع)، قالوا: يا رسول الله، فارس والروم؟ قال: (فمن الناس إلا هؤلاء). ومشابهتهم في الشرك بقبور الأنبياء والصالحين هو من مشابهتهم التي حذر منها أمته قبل موته في صحته ومرضه، وفي صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم /قبل أن يموت بخمس وهو يقول: (إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل؛ فإن الله قد اتخذني خليلا، كما اتخذ إبراهيم خليلا، ولو كنت متخذًا من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلا، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك). وأما لعنه لمن فعل ذلك: ففي الصحيحين عن عائشة وابن عباس قالا: لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه، فقال وهو كذلك: (لعنة الله على إليهود والنصاري اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) ـ يحذر ما صنعوا. وفي الصحيحين عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه: (لعن الله إليهود والنصاري اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد). قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره؛ غير أنه خشي أن يتخذ مسجـدًا. وفي لفظ: غير أنه خشي، أو خُشي. وفي الصحيح أيضاً عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله إليهود والنصاري اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد). هذا لفظ مسلم. ولـه وللبخاري: (قاتل الله إليهـود والنصاري اتخـذوا قبور أنبيائهم مساجد)، وفي الصحيحين عـن عائشـة: أن أم حبيـبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة ـ رأينها بأرض الحبشة فيها تصاوير ـ لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أولئك إذا مات فيهم /الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا، وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة). وفي المسند وصحيح أبي حاتم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد). وهذا باب واسع لبسطه موضع آخر. وقد بسط الكلام في هذا الباب في الرد على من هو أفضل من هذا، وبين ما خالفوا فيه الكتاب والسنة والإجماع في هذا الباب وفي غيره. ولما كان أولئك أعلم وأفضل كان الرد عليهم بحسبهم، والله أعلم. صورة خطوط القضاة الأربعة: على ظهر فتيا الشيخ تقي الدين أبي العباس ابن تيمية في [السفر لمجرد زيارة قبور الأنبياء]. هذا المنقول باطنها جوابًا عن السؤال أن زيارة الأنبياء بدعة، أو ما ذكره من نحو ذلك، وأنه لا يترخص في السفر إلى زيارة الأنبياء. هذا كلام باطل، مردود عليه. وقد نقل جماعة من العلماء والأئمة الكبار أن زيارة النبي صلى الله عليه وسلم فضيلة وسنة مجمع عليها، وهذا المفتي المذكور ينبغي أن يزجر عن مثل هذه الفتاوي الباطلة عند / العلماء والأئمة الكبار، ويمنع من الفتاوي الغريبة المردودة عند الأئمة الأربعة، ويحبس إذا لم يمتنع من ذلك، ويشهر أمره، ليتحفظ الناس من الاقتداء به. كتبه العبد الفقير إلى الله محمد بن إبراهيم بن سعد بن جماعة. وتحته: يقول أحمد بن عمر المقدسي الحنبلي. وتحته: كذلك يقول محمد بن الجريري الحنفي، لكن يحبس الآن جزمًا مطلقًا. وتحته: كذلك يقول العبد الفقير إلى الله محمد بن أبي بكر المالكي، إن ثبت ذلك عليه، ويبالغ في زجره بحسب ما تندفع به هذه المفسدة وغيرها من المفاسد. فهذه صورة خطوطهم بمصر. والحمد لله رب العالمين وصلي الله على محمد سيدنا وآله وصحبه وسلم تسليمًا.
|